ولا شك في أني لا أستطيع أن أذكر كل ما ينبغي ذكره، وما يتسع المقام للتفصيل في كل ما يحتاج إلى شرح وتفصيل، فلنقتصر إذًا على ما نظن أنه مهم.
(( يبدا الدكتور البكار هنا في عرض أداب الزمان والوقت الذي نعيش... وسوف نعرض كل بند بشكل منفصل حتى نحاول الوقوف على بعض القضايا الدقيقة... فاتن ))الترف
من أدب الزمان أن نحمي أنفسنا من فنون الترف والإسراف واللهو التي باتت تنتشر بين الناس.تأتي مع التقدم الحضاري فنون جديدة من الترف، وينشغل وعي الناس بالابتهاج بهذه الأشياء الجديدة، ويتمادون في رغباتهم، وينسَون الضوابط الأخلاقية؛ أي:
ينسون ما أمرنا به من حسن تدبير، ومن حسن توجيه للمال الذي نحن مؤتمنون عليه ومسؤولون عنه أمام الله تعالى... ينسى معظم الناس حُسن توجيه هذا المال، وحسن التصرف معه، وحسن التدبير، ينسون حق الله فيه، ويصبح الهم المسيطر هو كيف نكتشف أساليب جديدة للاستمتاع، وكيف نكتشف أساليب جديدة لإنفاق المال، وكيف نُفاخر في صرفه في وجوه مختلفة!
وصار الوقت عند كثير من الناس عِبئًا عليه، فهو يبحث عن أسباب للفرار من ذلك الوقت!إن هذه الدنيا دار ممر، لا دار مقر، وهذه الحقيقة هي أكبر حقيقة في الرؤية الإسلامية بعد حقيقة وجود الله،
والإكثار من أثاث الدنيا ومن ألوانها ورفاهيتها سيصرف انتباهنا عن الآخرة وعن الاستعداد لها.. مع أن الآخرة هي المقر النهائي، وهي المحطة الأخيرة التي لا أقول يتوقف عندها القطار، بل التي سيُعطل عندها القطار، أو سيختفي عندها القطار.
يقول الله تعالى: {يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور}[فاطر: 5].
وقال عليه الصلاة والسلام: "مما أخاف عليكم من بعدي ما يُفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها".
فالذي يقلق النبي صلى الله عليه وسلم ويُخيفه هو أن الأمة حين ستفتح عليها الكنوز وتفتح عليها الخيرات فإن قسمًا من أبنائها سوف يفهمون هذه النعمة التي جاءتهم فهمًا خاطئًا، ويفسرونها تفسيرًا خاطئًا، وبالتالي سوف يتعاملون معها التعامل الخاطئ الذي لا يليق بشخصٍ ينتسب إلى أمة الإسلام.
إننا نحتاج في تعاملنا مع متاع الدنيا وزينتها إلى التوازن، ونحتاج إلى الحذر من الانجرار إلى الترف. والتوازن دائمًا هو الشيء المفقود، وهو الشيء الذي نسعى إليه ولا نقبض عليه.نحن
لا ندعو إلى أن يعيش الناس في قلة وتضييق على أنفسهم من أجل النجاح في الآخرة..لا، فالله تعالى يقول: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} [الأعراف: 31].
فالإنسان عليه أن يتمتع ويأكل ويشرب وينفق ويهدي ويترفه..
لكن عليه أن يشعر بأن هذه الأشياء يجب أن تتوقف عند حدود، وأن الإنسان مهما أوتي من مال فجزء من هذا المال يصرف على التمتع فقط، ويصرف الجزء الآخر منه للاستثمار وللتنمية فيما يرضي الله تعالى.
شبه بعض أهل العلم مسيرة الدنيا في هذه الحياة بالذي يخوض ويمشي في الطين، فأكبرُ هَمّ الذي يمشي في الطين ألا يتجاوز الطين قدميه إلى ساقيه أو ركبتيه، فهو يعرف أنه لا بد من أن يتلوث، لكنه يحاول باستمرار ألا يصيبه إلا أقل قدر من التلوث.
قال بعض الحكماء: غض طرفك عن الدنيا... أي: إذا رأى الواحد منا شيئًا يفتنه أو يغريه، أو إذا أرادت نفسه أن تحدثه بحسد فلان، أو بمنافسة فلان، أو بحمل شيء في النفس على فلان؛ لأنه أوتي شيئًا من الدنيا، ويبدأ بعد ذلك بلوم نفسه، وبلوم القدر.. في هذه الحالة عليه أن يتجاهل ما يراه، وأن يمر كأنه لم يراه، أو كأنه شيءٌ لم يكن.
نحن اليوم في حاجة إلى أن نحفظ أنفسنا من الغرق في الجزئيات، والهموم اليومية، والنجاح في الأمر الفلاني، وقضاء الواجب الفلاني، وإصلاح الشيء الفلاني.. مع العلم أن الحياة لا تمضي إلا بهذا،
لكن هناك فرق كبير بين من يقوم بهذه الأمور وهو محافظ على الصورة الكلية لنشاطه، والصورة الكلية لأهدافه، وواجباته، والصورة الكلية للشيء الذي ينبغي أن يمنحه جلّ وقته وجلّ اهتمامه.. وبين من يغرق في تلك الأمور.ومثال هذا كرجل يمشي بسيارته في طريق سريع، ومر بتحويلة، وهذه التحويلة قد تكون ميلاً أو ميلين أو خمسة أميال...
لو تساءلنا: ما الذي يسيطر عليه وهو يسير في تلك التحويلة؟..
لا يسيطر عليه الانشغال بتلك التحويلة، وأنها ستكون إلى منتهى الطريق، ويبدأ يفكر كيف سيتعامل معها..لا.. إن وعيه وانتباهه كله منشدٌّ إلى الطريق العام الذي حول وحاد عنه، وهو ينتظر اللحظة التي سيعود فيها إلى ذلك الطريق العام الذي تحول وانشغل عنه في وقت من النهار.. هذا الطريق العام هو الآخرة، وهو الفوز برضوان الله عز وجل.
ويمكن أن نقول إنه أيضًا حساب اللحظة التي سنُغادر فيها هذه الدنيا.
ونحن في خِضم أشغالنا اليومية علينا ألا ننسى أبدًا أننا لسنا هنا في دار خلود، أو دار راحة، أو دار يطمأن إليها، فقد يكون الإنسان ماضيًا في شيء فيُصاب بمصيبة تُغير مجرى حياته، أو يصاب بمصيبة الموت، ويقفل ملف هذه الحياة كلها، ويفتح ملف جديد..
نحن محتاجون إلى أن نعطي الدنيا حقها في إطار عدم تضييع حق الآخرة.. ولكن هذا الإعطاء هو من منظور معين، وضمن إطار معين وقيود معينة.. هذا الإطار الذي من خلاله نعطي أنفسنا، ونعطي الناس، ونعطي مصالحنا حقها وما تتطلبه منا من اهتمام.. هذا الإطار هو عدم تضييع حق الآخرة.
ونكون بخير عندما نعطي الدنيا من الاهتمام قدر ما تستحق، وعندما نعطي الآخرة أيضًا قدر ما تستحق.
هذه الدنيا في الرؤية الإسلامية مهما طالت فإنها ستبقى قصيرة جدًا، ولو عاش الإنسان مئة سنة في قوة ونشاط وهمة ونجاح.. لو قارنا هذه المدة بمدة الحياة الآخرة، ولو قارنا حياة معذبة هنا في الدنيا بعذاب جهنم، وقارنا لا من حيث الكيف، بل من حيث المدة، ولو قارنا هنا حياة منعمة بحياة النعيم الأبدي في جنات الخلد.. حينئذ سننتهي إلى أن هذه الدنيا التي نعيشها بملذاتها وشقائها وخيرها وشرّها جزء ضئيل جدًا، وربما يصل في النهاية إلى العدم التام.
من المؤسف أن هذه القضية قد غابت عن أذهان بعض المسلمين، غابت النقطة المهمة جدًا وهي أن هذه الدنيا هي دار ممر، وأن علينا أن نتعامل معها في إطار تعاليم الإسلام.
هناك أسرة مكونة من خمسة أشخاص: أب وأم وثلاثة أولاد، تستهلك هذه الأسرة –مع الأسف- من الماء والكهرباء عشرة أضعاف ما تستهلكه أسرة في البلد نفسه، والمكان نفسه، ولها عدد الأفراد نفسه..!
وسبب هذا التصرف الشاذ هو عدم وجود الاهتمام، ونسمعهم يقولون: "نحن قادرون على بذل المال، وما دمنا قادرين فلماذا لا نتمتع..!" وكأنهم لا يعرفون أنهم سوف يُسألون عن هذا الإسراف والتبذير، وكأنهم لا يعرفون أن الدولة تنفق أموالاً هائلة حتى تؤمن الماء والكهرباء بأسعار يستطيع الفقير أن يدفعها. فهناك أفرادٌ كثيرون ليس عندهم إحساس أو شعور بالمسؤولية..!
تحتاج هذه النعم التي أفاضها الله علينا إلى أن نشعر بمسؤوليتها، وإذا لم نشعر بمسؤوليتها نتصف حينئذ تصرف من لا يرعوي، ومن لا يقدر النعمة، ومن لا يقيم لها أي وزن، ومن لا يتذكر أبدًا أن هذه النعمة في النهاية محدودة، ويجب أن نحافظ عليها.